فصل: تفسير الآيات (169- 170):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (169- 170):

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)}
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ} أي من بعد المذكورين {خَلْفٌ} أي بدلُ سوءٍ، مصدرٌ نعت به ولذلك يقع على الواحد والجمع، وقيل: جمع وهو شائعٌ في الشر والخَلَفُ بفتح اللام في الخير، والمرادُ به الذين كانوا في عصر رسولِ الله صلى الله عليه وسلم {وَرِثُواْ الكتاب} أي التوراةَ من أسلافهم يقرؤونها ويقفون على ما فيها {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الادنى} استئنافٌ مسوقٌ لبيان ما يصنعون بالكتاب بعد وراثتِهم إياه أي يأخذون حُطامَ هذا الشيءِ الأدنى أي الدنيا من الدنو أو الدناءة، والمرادُ به ما كانوا يأخذونه من الرِّشا في الحكومات وعلى تحريف الكلام وقيل: حال من واو ورثوا {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} ولا يؤاخذُنا الله تعالى بذلك ويتجاوز عنه، والجملةُ تحتمل العطفَ والحالية، والفعلُ مسندٌ إلى الجار والمجرور، أو مصدر يأخذون {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} حال من الضمير في لنا أي يرجون المغفرةَ والحال أنهم مُصِرّون على الذنب عائدون إلى مثله غيرَ تائبين عنه {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الكتاب} أي الميثاقُ الواردُ في الكتاب {أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق} عطفُ بيانٍ للميثاق أو متعلقٌ به أي بأن لا يقولوا الخ، والمرادُ به الردُّ عليهم والتوبيخُ على بتّهم القولَ بالمغفرة بلا توبةٍ والدِلالةُ على أنها افتراءٌ على الله تعالى وخروجٌ عن ميثاق الكتاب {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} عطفٌ على ألم يؤخذ من حيث المعنى فإنه تقريرٌ أو على ورِثوا وهو اعتراض {والدار الاخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} ما فعل هؤلاء، {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} فتعلموا ذلك فلا تستبدلوا الأدنى المؤدّي إلى العقاب بالنعيم المخلّد، وقرئ بالياء وفي الالتفات تشديدٌ للتوبيخ.
{والذين يُمَسّكُونَ بالكتاب} أي يتمسكون في أمور دينهم، يقال: مسَك بالشيء وتمسّك به. قال مجاهد: هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد اللَّه بن سلام وأصحابِه تمسكوا بالكتاب الذي جاء به موسى عليه السلام فلم يحرّفوه ولم يكتُموه ولم يتخذوه مأكلةً، وقال عطاء: هم أمةُ محمد عليه الصلاة والسلام وقرئ {يُمْسِكون} من الإمساك وقرئ {تمسّكوا} و{استمسكوا} موافقاً لقوله تعالى: {وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ} ولعل التغييرَ في المشهورة للدلالة على أن التمسّك بالكتاب أمرٌ مستمرٌ في جميع الأزمنة بخلاف إقامةِ الصلاة فإنها مختصةٌ بأوقاتها، وتخصيصُها بالذكر من بين سائر العبادات لإنافتها عليها، ومحلُّ الموصولِ إما الجرُّ نسقاً على الذين يتقون وقولُه: أفلا تعقلون اعتراضٌ مقرر لما قبله وإما الرفعُ على الابتداء والخبر قوله تعالى: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين} والرابطُ إما الضميرُ المحذوفُ كما هو رأيُ جمهورِ البصْريين، والتقديرُ أجرُ المصلحين منهم، وإما الألفُ واللامُ كما هو رأيُ الكوفيين فإنه في حكم مُصلحيهم كما في قوله تعالى: {فَإِنَّ الجنة هي المأوى} أي مأواهم وقوله تعالى: {مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابواب} أي أبوابُها، وإما العمومُ في مصلحين فإنه من الروابط، ومنه نعم الرجلُ زيدٌ على أحد الوجوه. وقيل: الخبرُ محذوفٌ والتقديرُ: والذين يمسّكون بالكتاب مأجورون أو مثابرون وقوله تعالى: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ} الخ، اعتراضٌ مقرر لما قبله.

.تفسير الآيات (171- 172):

{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)}
{وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ} أي قلعناه من مكانه ورفعناه عليهم {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} أي سقيفةٌ وهي كلُّ ما أظلك {وَظَنُّواْ} أي تيقنوا {أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} ساقطٌ عليهم لأن الجبلَ لا يثبُت في الجو لأنهم كانوا يُوعَدون به، وإطلاقُ الظنِّ في الحكاية لعدم وقوعِ متعلَّقِه وذلك أنهم أبَوْا أن يقبلوا أحكامَ التوراة لثقلها فرفع الله تعالى عليهم الطورَ وقيل لهم: إن قبِلتم ما فيها وإلا ليقعَنَّ عليكم {خُذُواْ مَا ءاتيناكم} أي وقلنا أو قائلين: خذوا ما آتيناكم من الكتاب {بِقُوَّةٍ} بجد وعزيمة على تحمل مشاقِّه وهو حالٌ من الواو {واذكروا مَا فِيهِ} بالعمل ولا تتركوه كالمنسيِّ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} بذلك قبائحَ الأعمالِ ورذائلَ الأخلاق أو راجين أن تنتظموا في سلك المتقين.
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} منصوبٌ بمضمر معطوفٌ على ما انتصب به إذ نتقنا مَسوقٌ للاحتجاج على اليهود بتذكير الميثاقِ العام المنتظمِ للناس قاطبةً وتوبيخِهم بنقضه إثرَ الاحتجاج عليهم بتذكير ميثاقِ الطورِ، وتعليقُ الذكر بالوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيه من الحوادث قد مر بيانُه مراراً أي واذكر لهم وقتَ أخذ ربُّك {مِن بَنِى ءادَمَ} المرادُ بهم الذين وَلدَهم كائناً من كان نسلاً بعد نسلٍ سوى مَنْ لم يولدْ له بسبب من الأسباب كالعُقم وعدمِ التزوج والموتِ صغيراً، وإيثارُ الأخذ على الإخراج للإيذان بالاعتناء بشأن المأخوذِ لما فيه من الإنباء عن الاجتباء والاصطفاءِ وهو السببُ في إسناده إلى اسم الربِّ بطريق الالتفاتِ مع ما فيه من التمهيد للاستفهام الآتي، وإضافتُه إلى ضميره عليه الصلاة والسلام للتشريف وقوله تعالى: {مِن ظُهُورِهِمْ} بدلٌ من بني آدمَ بدلَ البعضِ بتكرير الجار كما في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ} و{من} في الموضعين ابتدائيةٌ وفيه مزيدُ تقريرٍ لابتنائه على البيان بعد الإبهامِ، والتفصيلُ غِبَّ الإجمالِ تنبيهٌ على أن الميثاقَ قد أُخذ منهم وهم في أصلاب الآباءِ ولم يُستودَعوا في أرحام الأمهات، وقوله تعالى: {ذُرّيَّتُهُم} مفعولُ أخذَ أُخِّر عن المفعول بواسطة الجارِّ لاشتماله على ضمير راجعٍ إليه، ولمراعاة أصالتِه ومنشئيّتِه، ولما مرّ مراراً من التشويق إلى المؤخّر، وقرئ {ذرّياتِهم} والمرادُ بهم أولادُهم على العموم فيندرج فيهم اليهودُ المعاصِرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم اندراجاً أولياً كما اندرج أسلافُهم في بني آدم كذلك، وتخصيصُهما باليهود سلفاً وخلفاً مع أن ما أريد بيانُه من بديع صنعِ الله تعالى عز وجل شاملٌ للكل كافة مُخِلٌّ بفخامة التنزيلِ وجزالةِ التمثيل {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} أي أشهد كل واحدةٍ من أولئك الذرياتِ المأخوذين من ظهور آبائهم على نفسها لا على غيرها تقريراً لهم بربوبيته التامةِ وما تستتبعه من المعبودية على الاختصاص وغيرِ ذلك من أحكامها وقوله تعالى: {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ} على إرادة القولِ، أي قائلاً: ألست بربكم ومالكَ أمرِكم ومربيكم على الإطلاق من غير أن يكون لأحد مدخلٌ في شأن من شؤونكم؟ فينتظم استحقاقُ المعبودية ويستلزم اختصاصَه به تعالى.
{قَالُواْ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل: فماذا قالوا حينئذ؟ فقيل: قالوا: {بلى شَهِدْنَا} أي على أنفسنا بأنك ربنا وإلهنا لا ربَّ لنا غيرُك كما ورد في الحديث الشريف وهذا تمثيلٌ لخلقه تعالى إياهم جميعاً في مبدأ الفطرةِ مستعدين للاستدلال بالدلائل المنصوبةِ في الآفاق والأنفسِ المؤدية إلى التوحيد والإسلامِ كما ينطِق به قوله عليه الصلاة والسلام: {كلُّ مولودٍ يولد على الفطرة} الحديث، مبنيٌّ على تشبيه الهيئةِ المنتزَعَةِ من تعريضه تعالى إياهم لمعرفة ربوبيتِه بعد تمكينِهم منها بما رَكَّز فيهم من العقول والبصائر ونصبَ لهم في الآفاق والأنفسِ من الدلائل تمكيناً تاماً، ومن تمكّنهم تمكناً كاملاً وتعرّضِهم لها تعرضاً قوياً بهيئة منتزعةٍ من حمله تعالى إياهم على الاعتراف بها بطريق الأمرِ ومن مسارعتهم إلى ذلك من غير تلعثم أصلاً من غير أن يكون هناك أخذٌ وإشهادٌ وسؤالٌ وجواب كما في قوله تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}
وقوله تعالى: {أَن تَقُولُواْ} بالتاء على تلوين الخطاب وصرفِه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاصريه من اليهود تشديداً في الإلزام، أو إليهم وإلى متقدّميهم بطريق التغليبِ لكن لا من حيث إنهم مخاطَبون بقوله تعالى: {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ} فإنه ليس من الكلام المحكي، وقرئ بالياء على أن الضمير للذرية، وأياً ما كان فهو مفعولٌ له لما قبله من الأخذ والإشهاد أي فعلنا ما فعلنا كراهةَ أن تقولوا أو لئلا تقولوا أيها الكفرةُ أو يقولوا هم {يَوْمُ القيامة} عند ظهور الأمرِ {إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا} عن وحدانية الربوبيةِ وأحكامِها {غافلين} لم ننبِّه عليه، فإنهم حيث جُبلوا على ما ذكر من التهيؤ التامِّ لتحقيق الحقِّ والقوة القريبةِ من الفعل صاروا محجوبين عاجزين عن الاعتذار بذلك إذ لا سبيل لأحد إلى إنكار ما ذُكر من خلقهم على الفطرة السليمةِ.

.تفسير الآية رقم (173):

{أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)}
وقوله تعالى: {أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا} عطفٌ على تقولوا و{أو} لمنع الخلوّ دون الجمعِ، أي هم اخترعوا الإشراكَ وهم سنّوه {مِن قَبْلُ} أي من قبل زمانِنا {وَكُنَّا} نحن {ذُرّيَّةً مّن بَعْدِهِمْ} لا نهتدي إلى السبيل ولا نقدِر على الاستدلال بالدليل {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون} من آبائنا المُضلّين بعد ظهور أنهم المجرمون ونحن عاجزون عن التدبير والاستبدادِ بالرأي، أو أتؤاخذنا فتهلكنا الخ، فإن ما ذكر من استعدادهم الكاملِ يسُدّ عليهم بابَ الاعتذار بهذا أيضاً فإن التقليدَ عند قيامِ الدلائلِ والقدرةِ على الاستدلال بها مما لا مساغَ له أصلاً.
هذا وقد حُملت هذه المقاولة على الحقيقة كما روي عن ابن عباس رضى الله عنهما من أنه لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام مسحَ ظهرَه فأخرج منه كلَّ نسَمةٍ هو خالقُها إلى يوم القيامة فقال: ألستُ بربكم قالوا: بلى فنودي يومئذ جَفّ القلمُ بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة. وقد روي عن عمر رضى الله عنه أنه سئل عن الآية الكريمة فقال: سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سُئل عنها فقال: «إن الله تعالى خلق آدمَ ثم مسحَ ظهرَه بيمينه فاستخرج منه ذريةً فقال: خلقتُ هؤلاء للجنة وبعمل أهلِ الجنة يعملون، ثم مسح ظهرَه فاستخرج منه ذريةً فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهلِ النار يعملون»، وليس المعنى أنه تعالى أخرج الكلَّ من ظهره عليه الصلاة والسلام بالذات بل أخرج من ظهره عليه السلام أبناءَه الصُّلبية ومن ظهرهم أبناءَهم الصلبية وهكذا إلى آخر السلسلة لكن لما كان المظهرُ الأصليُّ ظهرَه عليه الصلاة والسلام وكان مَساقُ الحديثين الشريفين بيانَ حال الفريقين إجمالا من غير أن يتعلق بذكر الوسائطِ غرضٌ على نسب إخراجِ الكلِّ إليه، وأما الآيةُ الكريمة فحيث كانت مسوقةً للاحتجاج على الكفرة المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبيانِ عدمِ إفادةِ الاعتذارِ بإسناد الإشراكِ إلى آبائهم اقتضى الحالُ نسبةَ إخراجِ كل واحدٍ منهم إلى ظهر أبيهم من غير تعرّضٍ لإخراج الأبناءِ الصلبيةِ لآدم عليه السلام من ظهره قطعاً، وعدمُ بيان الميثاقِ في حديث عمرَ رضى الله تعالى عنه ليس بياناً لعدمه ولا مستلزِماً له، وأما ما قالوا من أن أخذَ الميثاق لإسقاط عذرِ الغفلةِ حسبما ينطِق به قوله تعالى: {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين} ومعلوم أنه غيرُ دافع لغفلتهم في دار التكليفِ إذ لا فرْدَ من أفراد البشر يذكُر ذلك فمردودٌ لكن لا بما قيل من أن الله عز وجل قد أوضح الدلائلَ على وحدانيته وصدقِ رسلهِ فيما أَخبروا به فمن أنكره كان معانداً ناقضاً للعهد ولزِمتْه الحُجة، ونسيانُهم وعدمُ حفظهم لا يُسقط الاحتجاجَ بعد إخبار المخبِرِ الصادقِ بل بأن قوله تعالى: {أَن تَقُولُواْ} الخ، ليس مفعولاً له لقوله تعالى: {وَأَشْهَدَهُمْ} وما يتفرع عليه من قولهم: {بلى شهِدنا} حتى يجب كونُ ذلك الإشهادِ والشهادة محفوظاً لهم في إلزامهم بل لفعل مضمر ينسحب عليه الكلامُ والمعنى فعلنا ما فعلنا من الأمر بذكر الميثاقِ وبيانِه كراهةَ أن تقولوا أو لئلا تقولوا أيها الكفرةُ يوم القيامة: إنا كنا غافلين عن ذلك الميثاقِ لم نُنَبَّه عليه في دار التكليفِ وإلا لعمِلنا بموجبه.
هذا على قراءة الجمهور، وأما على القراءة بالياء فهو مفعول له لنفس الأمر المضمر العاملِ في إذ أخذ، والمعنى اذكُرْ لهم الميثاقَ المأخوذَ منهم فيما مضى لئلا يعتذروا يوم القيامة بالغفلة عنه أو بتقليد الآباءِ، هذا على تقدير كونِ قوله تعالى: {شَهِدْنَا} من كلام الذرية وهو الظاهرُ، فأما على تقدير كونِه من كلامه تعالى فهو العامل في أن تقولوا ولا محذور أصلاً، إذ المعنى شهِدنا قولَكم هذا لئلا تقولوا يوم القيامة إلخ لأنا نردكم ونكذبكم حينئذ.

.تفسير الآيات (174- 175):

{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)}
{وكذلك} إشارةٌ إلى مصدر الفعل المذكور بعده، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلو شأنِ المشار إليه وبُعد منزلتِه، والكافُ مقحمةٌ مؤكدةٌ لما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة، والتقديمُ على الفعل لإفادة القصْر ومحلُّه النصبُ على المصدرية أي ذلك التفصيلَ البليغَ المستتبِعَ للمنافع الجليلة {نُفَصّلُ الآيات} المذكورةَ لا غيرَ ذلك {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وليرجعوا عما هم عليه من الإصرار على الباطل وتقليدِ الآباء نفعل التفصيلَ المذكورَ. (قالوا، وإن) ابتدائيتان، ويجوز أن تكون الثانيةُ عاطفةً على مقدر مترتبٍ على التفصيل أي وكذلك نفصل الآيات ليقفوا على ما فيها من المرغّبات والزواجر وليرجعوا الخ.
{واتل عَلَيْهِمْ} عطفٌ على المضمر العاملِ في إذ أخذ واردٌ على نمطه في الإنباء عن الحَوْر بعد الكَوْر والضلالةِ بعد الهدى أي واتل على اليهود {نَبَأَ الذي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} أي خبَره الذي له شأنٌ وخطر، وهو أحدُ علماءِ بني إسرائيلَ. وقيل: هو بلعمُ بنُ باعوراءَ أو بلعامُ بنُ باعر من الكنعانيين أوتي علمَ بعضِ كتبِ الله تعالى، وقيل هو أُميةُ بنُ أبي الصَّلْت وكان قد قرأ الكتبَ وعلم أن الله تعالى مرسِلٌ في ذلك الزمان رسولاً، ورجا أن يكون هو الرسولَ فلما بعث الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم حسَده وكفر به، والأولُ هو الأنسبُ بمقام توبيخ اليهود بهَناتهم {فانسلخ مِنْهَا} أي من تلك الآيات انسلاخَ الجِلد من الشاة ولم يُخطِرْها بباله أصلاً أو أُخرج منها بالكلية بأن كفر بها ونبذها رواء ظهرِه، وأياً ما كان فالتعبيرُ عنه بالانسلاخ المنبىء عن اتصال المحيطِ بالمُحاط خلقةً وعن عدم الملاقاة بينهما أبداً للإيذان بكمال مباينتِه للآيات بعد أن كان بينهما كمالُ الاتصال {فَأَتْبَعَهُ الشيطان} أي تبعه حتى لحِقه وأدركه فصار قريناً له وهو المعنى على قراءة فاتّبعه من الافتعال، وفيه تلويحٌ بأنه أشدُّ من الشيطان غَوايةً أو أتبعه خُطُواتِه {فَكَانَ مِنَ الغاوين} فصار من زمرة الضالين الراسخين في الغَواية بعد أن كان من المتهدين، وروي أن قومه طلبوا إليه أن يدعوَ على موسى عليه السلام فقال: كيف أدعوا على مَنْ معه الملائكة؟ فلم يزالوا به حتى فعل، فبقُوا في التيه، ويرده أن التيهَ كان لموسى عليه السلام رَوْحاً وراحة، وإنما عُذب به بنو إسرائيل وقد كان ذلك بدعائه عليه السلام عليهم كما مر في سورة المائدة.

.تفسير الآية رقم (176):

{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)}
{وَلَوْ شِئْنَا} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لبيان مناطِ ما ذُكر من انسلاخه من الآيات ووقوعِه في مهاوي الغَواية، ومفعولُ المشيئةِ محذوفٌ لوقوعها شرطاً وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاءِ على القاعدة المستمرة، أي ولو شئنا رفعَه {لرفعناه} أي إلى المنازل العاليةِ للأبرار العالمين بتلك الآياتِ العاملين بموجبها، لكن لا بمحض مشيئتِنا من غير أن يكون له دخلٌ في ذلك أصلاً فإنه منافٍ للحكمة التشريعية المؤسسةِ على تعليق الأجزيةِ بالأفعال الاختيارية للعباد، بل مع مباشرته للعمل المؤدِّي إلى الرفع بصرف اختيارِه إلى تحصيله كما ينبىء عنه قوله تعالى: {بِهَا} أي بسبب تلك الآياتِ بأن عمِل بموجبها فإن اختيارَه وإن لم يكن مؤثراً في حصوله ولا في ترتب الرفعِ عليه بل كلاهما بخلق الله تعالى لكن خلقَه تعالى مَنوطٌ بذلك البتةَ حسب جَرَيان العادةِ الإلهية، وقد أشير إلى ذلك في الاستدراك بأن أُسند ما يؤدي إلى نقيض التالي إليه حيث قيل: {ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الارض} مع أن الإخلادَ إليها أيضاً مما لا يتحقق عند صرف اختيارِه إليه بخلقه تعالى كأنه قيل: لو شئنا رفعَه بمباشرته لسببه لرفعناه بسبب تلك الآيات التي هي أقوى أسبابِ الرفع ولكن لم نشأْه لمباشرته لسبب نقيضِه فتُرك في كلَ من المقامين ما ذكر في الآخر تعويلاً على إشعار المذكورِ بالمطويّ كما في قوله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ} وتخصيصُ كلَ من المذكورين بمقامه للإيذان بأن الرفعَ مرادٌ له تعالى بالذات وتفضّلٌ محضٌ عليه لا دخلَ فيه لفعله حقيقةً، كيف لا وجميعُ أفعاله ومباديها من نعمه تعالى وتفضّلاته، وإن نقيضَه إنما أصابه بسوء اختيارِه على موجب الوعيدِ لا بالإرادة الذاتيةِ له سبحانه كما قيل في وجه ذكرِ الإرادةِ مع الخير، والمسِّ مع الضرّ في الآية المذكورةِ وهو الشرُّ في جريان السنة القرآنيةِ على إسناد الخيرِ إليه تعالى وإضافةِ الشرِّ إلى الغير كما في قوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} ونظائرِه، والإخلادُ إلى الشيء الميلُ إليه مع الاطمئنان به والمرادُ بالأرض الدنيا وقيل: السفالة، والمعنى ولكنه آثرَ الدنيا الدنيةَ على المنازل السنية، أو الضَّعةَ والسَّفالةَ على الرِفعة والجلالة {واتبع هَوَاهُ} مُعرِضاً عن تلك الآياتِ الجليلة فانحط أبلغَ انحطاط وارتد أسفلَ سافلين وإلى ذلك أشير بقوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب} لما أنه أخسُّ الحيوانات وأسفلُها، وقد مُثّل حالُه بأخس أحوالِه وأذلِّها حيث قيل: {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} أي فحالُه التي هي مَثَلٌ في السوء كصفته في أرذل أحوالِه وهي حالةُ دوامِ اللهَثِ به في حالتي التعبِ والراحة فكأنه قيل: فتردّى إلى ما لا غايةَ وراءَه في الخسة والدناءة، وإيثارُ الجملةِ الاسمية على الفعلية بأن يقال: فصار مثلُه كمثل الكلب إلخ للإيذان بدوام اتصافِه بتلك الحالةِ الخسيسة وكمالِ استمراره عليها، والخطابُ في فعل الشرطِ لكل أحدٍ ممن له حظٌّ من الخطاب فإنه أدخلُ في إشاعة فظاعةِ حالِه، واللهَثُ إدلاعُ اللسانِ بالتنفس الشديد، أي هو ضيِّقُ الحال مكروبٌ دائمُ اللهَثِ سواءٌ هيّجتَه وأزعجتَه بالطرد العنيف أو تركته على حاله فإنه في الكلاب طبعٌ لا تقدِر على نفض الهواءِ المتسخّن وجلبِ الهواءِ البارد بسهولة لضعف قلبها وانقطاع فؤادِها بخلاف سائر الحيواناتِ فإنها لا تحتاج إلى التنفس الشديد ولا يلحقها الكربُ والمضايقةُ إلا عند التعب والإعياءِ، والشرطيةُ مع أختها تفسيرٌ لما أُبهم في المثل وتفصيلٌ لما أُجمل فيه وتوضيحٌ للتمثيل ببيان وجهِ الشبهِ، لا محلَّ له من الإعراب على منهاج قوله تعالى: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} إثرَ قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ} وقيل: هي في محل النصبِ على الحالية من الكلب بناءً على خروجهما من حقيقة الشرطِ وتحوّلِهما إلى معنى التسوية حسب تحولِ الاستفهامين المتناقضين إليه في مثل قوله تعالى: {أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ} كأنه قيل: لاهثاً في الحالتين وأياً ما كان فالأظهرُ أنه تشبيهٌ للهيئة المنتزَعَة مما اعتراه بعد الانسلاخِ من سوء الحالِ واضطرامِ القلب ودوامِ القلق والاضطراب وعدمِ الاستراحة بحال من الأحوال بالهيئة المنتزعةِ مما ذكر من حال الكلب. وقيل: لما دعا بلعم على موسى عليه السلام خرج لسانُه فتدلى على صدره وجعل يلهث كالكلب إلى أن هَلَك.
{ذلك} إشارة إلى ما ذُكر من الحالة الخسيسةِ منسوبةٌ إلى الكلب أو إلى المنسلخ، وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلتِها في الخسة والدناءة أي ذلك المثلُ السيءُ {مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بثاياتنا} وهم اليهودُ حيث أوُتوا من نعوت النبي عليه الصلاة والسلام وذِكرِ القرآن المُعجز وما فيه فصدقوه وبشروا الناسَ باقتراب مبعثِه وكانوا يستفتِحون به فلما جاءهم ما عرَفوا كفروا به وانسلخوا من حكم التوراة {فاقصص القصص} القَصصُ مصدرٌ وسُمّي به المفعولُ كالسلْب واللامُ للعهد والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي إذا تحقق أن المثل المذكورَ مثلُ هؤلاء المكذبين فاقصُصه عليهم حسبما أوحي إليك {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} فيقفون على جلية الحالِ وينزجرون عما هم عليه من الكفر والضلالِ ويعلمون أنك قد علِمتَه من جهة الوحي فيزدادون إيقاناً بك. والجملةُ في محل النصب على أنها حالٌ من ضمير المخاطَب أو على أنها مفعولٌ له أي فاقصُص القصص راجياً لتفكرهم أي أو رجاءً لتفكرهم.